كتاب: فتاوى الرملي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتاوى الرملي



(سُئِلَ) عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا سُؤَالًا عَلَى النُّبُوَّةِ صُورَتُهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ الرُّسُلِ، وَأَفْضَلُهُمْ وَمَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانُهُ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ لَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ وَنَحْنُ نَرَى الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ مُوسَى قَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً وَعِيسَى أَحْيَا الْمَوْتَى وَصَالِحٌ أَتَى بِنَاقَةٍ مِنْ جَبَلٍ جَمَادٍ وَمُحَمَّدٌ إنَّمَا أَتَى بِكَلَامٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ الْعَظِيمُ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ وَهَلْ إعْجَازُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ لِلصَّرْفِ عَنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَاحِبَ سَيْفٍ وَقَهْرٍ وَغَلَبٍ تَغَلَّبَ عَلَى النَّاسِ فَانْقَادُوا لَهُ؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ بُرْهَانُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى مِنْ بَرَاهِينِ سَائِرِ الرُّسُلِ وَمَا خُصَّ نَبِيٌّ بِشَيْءٍ إلَّا وَكَانَ لِنَبِيِّنَا مِثْلُهُ فَإِنَّهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكَانَ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إلَّا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ وَزَمَانِ رِسَالَتِهِ فَأُعْطِيَ آدَم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى شَرْحَ صَدْرِهِ بِنَفْسِهِ وَخَلَقَ فِيهِ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ الْخَلْقُ النَّبَوِيُّ وَتَوَلَّى مِنْ آدَمَ الْخَلْقَ الْوُجُودِيَّ وَمِنْ نَبِيِّنَا الْخَلْقَ النَّبَوِيِّ، وَأَمَّا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ فَلِأَجْلِ أَنَّ نُورَ نَبِيِّنَا كَانَ فِي جَبْهَتِهِ وَكَمَا عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا عَلَّمَ نَبِيَّنَا الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَذَوَاتَهَا، وَأَمَّا إدْرِيسُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا وَرَفَعَ نَبِيَّنَا إلَى مَكَان لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا نُوحٌ فَنَجَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْغَرَقِ وَنَجَّاهُ مِنْ الْخَسْفِ وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ تَهْلِكْ بِعَذَابٍ مِنْ السَّمَاءِ، وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَكَانَتْ نَارُ نُمْرُودَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا نَظِيرَ ذَلِكَ إطْفَاءَ نَارِ الْحَرْبِ عَنْهُ وَنَاهِيَك بِنَارٍ حَطَبُهَا السُّيُوفُ وَوَهَجُهَا الْحُتُوفُ وَمُوقِدُهَا الْجَسَدُ وَمَطْلَبُهَا الرُّوحُ وَالْجَسَدُ قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ مِنْ مَقَامِ الْخُلَّةِ فَقَدْ أُعْطِيَهُ نَبِيُّنَا وَزَادَ عَلَيْهِ بِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ.
وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ مُوسَى مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً غَيْرَ نَاطِقَةٍ فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَالْحَصَى فِي كَفِّهِ الشَّرِيفِ وَتَسْلِيمَ الْحَجَرِ عَلَيْهِ وَتَأْمِينَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ وَحَوَائِطِ الْبَيْتِ عَلَى دُعَائِهِ، وَكَلَامَهُ لِلْجَبَلِ وَكَلَامَ الْجَبَلِ لَهُ، وَكَلَامَ الشَّجَرِ لَهُ وَسَلَامَهَا عَلَيْهِ وَطَوَاعِيَتَهَا لَهُ وَشَهَادَتَهَا لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَحُنَيْنَ الْجِذْعِ شَوْقًا إلَيْهِ وَسُجُودَ الْجَمَلِ وَشَكَوَاهُ إلَيْهِ وَسُجُودَ الْغَنَمِ، وَكَلَامَ الذِّئْبِ وَشَهَادَتَهُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَكَلَامَ الْحِمَارِ لَهُ، وَكَلَامَ الضَّبِّ لَهُ.
وَأُعْطِيَ مُوسَى الْيَدَ الْبَيْضَاءَ وَكَانَ بَيَاضُهَا يَغْشَى الْبَصَرَ وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْتَقِلُ نُورًا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَبُطُونِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى أَنْ انْتَقَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَعْطَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ حِينَ صَلَّى مَعَهُ الْعِشَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَطِيرَةٍ عُرْجُونًا وَقَالَ انْطَلِقْ بِهِ فَإِنَّهُ سَيُضِيءُ لَك مِنْ بَيْنَ يَدَيْك عَشْرٌ وَمِنْ خَلْفِك عَشْرٌ فَأَضَاءَ لَهُ الْعُرْجُونُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ.
وَأُعْطِيَ مُوسَى انْفِرَاقَ الْبَحْرِ لَهُ، وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ لَهُ وَرُدَّتْ الشَّمْسُ لَهُ بَعْدَ مَا غَرُبَتْ فَمُوسَى تَصَرَّفَ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ وَنَبِيُّنَا تَصَرَّفَ فِي عَالَمِ السَّمَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَحْرًا يُسَمَّى الْمَكْفُوفُ، بَحْرُ الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالْقَطْرَةِ مِنْ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْبَحْرُ انْفَلَقَ لِنَبِيِّنَا حَتَّى جَاوَزَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ انْفِرَاقِ الْبَحْرِ لِمُوسَى وَمِمَّا أُعْطِيَهُ مُوسَى إجَابَةَ دُعَائِهِ، وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى فَمِنْهُ تَفْجِيرُ الْمَاءِ بِتَبُوكَ وَانْبِعَاثُهُ بِمَسِّهِ وَدَعْوَتِهِ وَمِنْهَا تَكَثُّرُ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ.
وَمِمَّا أُعْطِيَ مُوسَى تَفْجِيرَ الْمَاءِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَمَا أُوتِيَهُ نَبِيُّنَا مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ وَانْفِجَارِهِ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنِ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ هَذَا الْمَاءَ يَنْفَجِرُ مِنْ الْأَنْهَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا هَذِهِ لَمْ تَكُنْ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ لَحْمٍ وَدَمٍ فَكَفَى شُرْبَ وَطَهَارَةَ الْجَيْشِ وَكَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَكُلُّ مُعْجِزَةٍ لِلرُّسُلِ قَدْ سَلَفَتْ أَتَى بِأَعْجَبَ مِنْهَا عِنْدَ إظْهَارِهِ فَمَا الْعَصَا حَيَّةٌ تَسْعَى بِأَعْجَبَ مِنْ تَفْجِيرِ سَلْسَلِ مَاءٍ مِنْ كَفِّهِ جَارٍ.
وَمِمَّا أُعْطِيَهُ مُوسَى الْكَلَامَ، وَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا مِثْلَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَزِيَادَةَ الدُّنُوِّ، وَأَيْضًا كَانَ مَقَامُ الْمُنَاجَاةِ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَالْمُسْتَوَى وَحُجُبِ النُّورِ وَالرَّفْرَفِ وَمَقَامُ الْمُنَاجَاةِ لِمُوسَى طُورَ سَيْنَاءَ.
وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ هَارُونُ مِنْ فَصَاحَةِ اللِّسَانِ فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا مِنْ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ يُوسُفُ مِنْ شَطْرِ الْحُسْنِ فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا الْحُسْنَ كُلَّهُ، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ مِنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَنُقِلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ مَنَامَاتٍ فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَدْخُلُهُ الْحَصْرُ، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ دَاوُد مِنْ تَلْيِينِ الْحَدِيدِ إذَا مَسَحَهُ فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا أَنَّ الْعُودَ الْيَابِسَ اخْضَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَوْرَقَ وَمَسَحَ شَاةَ أُمِّ مَعْبَدٍ الْجَرْبَاءَ فَدَرَّتْ.
وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ كَلَامِ الطَّيْرِ وَتَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ وَالرِّيحِ وَالْمُلْكِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا مِثْلَ ذَلِكَ وَزِيَادَةً أَمَّا كَلَامُ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ فَنَبِيُّنَا كَلَّمَهُ الْحَجَرُ وَسَبَّحَ فِي كَفِّهِ الْحَصَى، وَكَلَّمَهُ ذِرَاعُ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَكَلَّمَهُ الظَّبْيُ وَشَكَا إلَيْهِ الْبَعِيرُ، وَرُوِيَ أَنَّ طَيْرًا فُجِعَ بِوَلَدِهِ فَجَعَلَ يُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ وَيُكَلِّمُهُ، وَأَمَّا الرِّيحُ الَّتِي كَانَتْ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ تَحْمِلُهُ أَيْنَ أَرَادَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَقَدْ أُعْطِيَ نَبِيُّنَا الْبُرَاقَ الَّذِي هُوَ أَسْرَعُ مِنْ الرِّيحِ بَلْ أَسْرَعُ مِنْ الْبَرْقِ الْخَاطِفِ فَحَمَلَهُ مِنْ الْفَرْشِ إلَى الْعَرْشِ فِي سَاعَةٍ زَمَانِيَّةٍ، وَأَقَلُّ مَسَافَةِ ذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَذَلِكَ مَسَافَةُ السَّمَوَاتِ، وَأَمَّا إلَى الْمُسْتَوَى، وَإِلَى الرَّفْرَفِ فَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
وَأَيْضًا الرِّيحُ سُخِّرَتْ لِسُلَيْمَانَ لِتَحْمِلَهُ إلَى نَوَاحِي الْأَرْضِ وَنَبِيُّنَا زُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ أَيْ جُمِعَتْ حَتَّى رَأَى مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَسْعَى إلَى الْأَرْضِ وَبَيْنَ مَنْ تَسْعَى لَهُ الْأَرْضُ، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ مِنْ تَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ فَقَدْ رَبَطَ نَبِيُّنَا أَبَا الشَّيَاطِينِ إبْلِيسَ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ وَخَيْرٌ مِنْهُ إيمَانُ الْجِنِّ بِنَبِيِّنَا فَسُلَيْمَانُ اسْتَخْدَمَهُمْ وَنَبِيُّنَا اسْتَسْلَمَهُمْ.
وَأَمَّا عَدُّ الْجِنِّ مِنْ جُنُودِ سُلَيْمَانَ فَخَيْرٌ مِنْهُ عَدُّ الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْنَادِهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَادِ وَاعْتِبَارِ تَكْثِيرِ السَّوَادِ عَلَى طَرِيقِ الْأَجْنَادِ، وَأَمَّا عَدُّ الطَّيْرِ مِنْ جُمْلَةِ أَجْنَادِهِ فَأَعْجَبُ مِنْهُ حِمَايَةُ الْغَارِ وَتَوْكِيرُهَا فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ وَحِمَايَتُهَا لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَالْغَرَضُ مِنْ اسْتِكْثَارِ الْجُنْدِ إنَّمَا هُوَ الْحِمَايَةُ وَقَدْ حَصَلَتْ مِنْ أَعْظَمِ شَيْءٍ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ.
وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ مِنْ الْمُلْكِ فَنَبِيُّنَا خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وَنَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ يَا خَيْرَ عَبْدٍ عَلَى كُلِّ الْمُلُوكِ وَلِي وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ صَالِحٌ مِنْ النَّاقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأُعْطِيَهُ عِيسَى مِنْ إبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأُعْطِيَ نَبِيُّنَا رَدَّ الْعَيْنِ إلَى مَكَانِهَا بَعْدَمَا سَقَطَتْ فَعَادَتْ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا أُومِنُ بِك حَتَّى تُحْيِيَ لِي ابْنَتِي فَأَتَى قَبْرَهَا وَقَالَ يَا فُلَانَةُ فَقَالَتْ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَكَانَتْ امْرَأَةُ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ بَرْصَاءَ فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ عَلَيْهَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ الْبَرَصَ مِنْهَا وَسَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَحَنَّ لِفِرَاقِهِ الْجِذْعُ وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَوْتَى؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَتَكَلَّمُ، وَأَمَّا مَا أُعْطِيَهُ عِيسَى مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَا تُخْفِيهِ النَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ فَقَدْ أُعْطِيَ نَبِيُّنَا ذَلِكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَزَادَ فِي التَّرَقِّي لِمَزِيدِ الدَّرَجَاتِ وَسَمَاعِ الْمُنَاجَاةِ وَالْحُظْوَةِ فِي الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ بِالْمُشَاهَدَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُحَمَّدٌ إنَّمَا أَتَى بِكَلَامٍ فَجَوَابُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إظْهَارَهُ فَكَانَ السِّحْرُ فِي زَمَنِ مُوسَى قَدْ انْتَهَى إلَى غَايَةٍ فَجَعَلَ اللَّهُ مُعْجِزَتَهُ قَلْبَ الْعَصَا حَيَّةً وَكَانَ الطِّبُّ فِي زَمَنِ عِيسَى قَدْ انْتَهَى إلَى غَايَةٍ فَجَعَلَ اللَّهُ مُعْجِزَتَهُ إحْيَاءَ الْمَوْتَى وَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا إلَى الْعَرَبِ فَجَعَلَ مُعْجِزَتَهُ الْقُرْآنَ الَّذِي عَجَزَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَهُوَ أَعْجَبُ فِي الْآيَةِ، وَأَوْضَحُ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى إلَى أَهْلِ الْبَلَاغَةِ، وَأَرْبَابِ الْفَصَاحَةِ وَرُؤَسَاءِ الْبَيَانِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ فِي اللَّسَنِ بِكَلَامٍ مُفْهَمِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ فَأَعْجَزَ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ كُلَّ فَصِيحٍ وَبَلِيغٍ مِمَّنْ طُولِبَ بِمُعَارَضَتِهِ مِنْ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُضَادَّةِ وَالْمُصَادَمَةِ، وَإِفْرَاطِهِمْ فِي الْمُعَادَاةِ وَالْمُعَانَدَةِ فَكَانَ عَجْزُهُمْ عَنْهُ أَعْجَبَ مِنْ عَجْزِ مَنْ شَاهَدَ الْمَسِيحَ عِنْدَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهِ وَلَا فِي إبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَلَا يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَهُ وَقُرَيْشٌ كَانَتْ تَتَعَاطَى الْكَلَامَ الْفَصِيحَ وَالْبَلَاغَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالْخَطَابَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَجْزَ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ لِيَصِيرَ عَلَمًا عَلَى رِسَالَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَأَمْكَنَهُمْ الْإِتْيَانُ بِمَا يُسَاوِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ فِي حُسْنِ الْأُسْلُوبِ وَالتَّرَاكِيبِ لَكِنَّهُمْ اخْتَارُوا بَذْلَ الْمُهَجِ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الْمُعَارَضَةُ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَبُرْهَانٌ وَاضِحٌ، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِهِ أَوْ دَخَلَهَا التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وَمِنْ وُجُوهِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ النَّظْمُ الْبَدِيعُ الْمُخَالِفُ لِكُلِّ نَظْمٍ مَعْهُودٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأُسْلُوبُ الْمُخَالِفُ لِجَمِيعِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ وَالْجَزَالَةُ الَّتِي لَا تَقَعُ مِنْ مَخْلُوقٍ وَالتَّصَرُّفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَرَبِيٌّ حَتَّى وَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِهِمْ عَلَى إصَابَتِهِ فِي وَضْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وَحَرْفٍ مَوْضِعَهُ وَالْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إلَى وَقْتِ نُزُولِهِ مِنْ أُمِّيٍّ مَا كَانَ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ فِي دَهْرِهَا وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْهُ وَتَحَدَّوْهُ بِهِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَشَأْنِ مُوسَى وَالْخَضِرِ وَحَالِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَجَاءَهُمْ وَهُوَ أُمِّيٌّ مِنْ أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَيْسَ لَهَا بِذَلِكَ عِلْمٌ بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ صِحَّتَهُ فَتَحَقَّقُوا صِدْقَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ ضَرُورَةَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا عَنْ تَعَلُّمٍ وَمِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ الْمُدْرَكِ بِالْحِسِّ فِي الْعِيَانِ فِي كُلِّ مَا وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى أَخْبَارٍ مُطْلَقَةٍ كَوَعْدِهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِخْرَاجِ الَّذِينَ أَخَرَجُوهُ مِنْ وَطَنِهِ، وَإِلَى وَعْدٍ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وَمِنْهَا الْأَخْبَارُ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا إلَّا بِالْوَحْيِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الْآيَةَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إذَا غَزَا جُيُوشَهُ عَرَّفَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ لِيَثِقُوا بِالنَّصْرِ، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ الْفَتْحُ يَتَوَالَى شَرْقًا وَغَرْبًا بَرًّا وَبَحْرًا قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
وَقَالَ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ} وَقَالَ: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وَقَالَ: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فَهَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارٌ عَنْ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْ مَنْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَوْقَفَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ.
وَمِنْ وُجُوهِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ جَمِيعِ الْأَنَامِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهَا الْحِكَمُ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَصْدُرَ فِي كَثْرَتِهَا وَشَرَفِهَا مِنْ آدَمِيٍّ وَمِنْهَا التَّنَاسُبُ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَالٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا مِنْ التَّكْرِيمِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى كُلِّ أَحْمَرَ، وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» لَا يُقَالُ إنَّ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرْت مِنْ الْمُعْجِزَاتِ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْآحَادِ وَالْمَطْلُوبُ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةُ الْيَقِينِيَّةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ أَفَادَ مَجْمُوعُهَا التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ الْمُفِيدَ لِلْيَقِينِ بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ.